الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

لا شك أن الدعوة إلى الله- عزَّ وجلَّ- بكل أبعادها تقوم على ضوابط أساسية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد كلَّفنا الله- عزَّ وجلَّ- بالدعوة إليه، وحمَّلنا هذه المسئولية المهمة، وأكد سبحانه وتعلى أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، إذًا فالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى واجبة بكل صورها المتعددة ووسائلها المتنوعة، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: من الآية125) حسب طاقة كل فردٍ مسلم مكلف رجلاً كان أو امرأة، ولا يُعفى من ذلك حتى أصحاب الأعذار ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)﴾ (التوبة)؛ لأن هذا التكليف امتداد لتحمُّل مسئولية الإسلام ذاته منذ أن أسلمنا لله رب العالمين ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾ (يوسف)، بل إن الجن فهمت هذا التكليف بمجرد أن قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ونفذوا هذا التكليف فورًا ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ (الأحقاف: من الآية29).

وقد قام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا التكليف الإلهي في كل الظروف والأحوال، ومستفيدًا من كل الإمكانيات المتاحة، وحتى كان وهو في مكة المكرمة ومعه المسلمون تحت كل ظروف الظلم والاضطهاد يقول "من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي؟"، ودخل في جوار المطعم بن عدي، وهو مشرك مستفيد من إحدى قيم المجتمع الجاهلي الإيجابية التي تقضي باحترام الجوار، وتحالف مع كل القوى الفاعلة في المجتمع، رغم اختلافها من أجل هدفٍ نبيل، وهو رفع الظلم عن كل مظلوم كائنًا مَن كان، فدخل في حلفٍ يلتزم كل الأطراف فيه بهذه الفضائل "حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان".

واستفاد صلى الله عليه وسلم من تجمع العرب من كل القبائل عند بيت الله الحرام، وكذلك تجمعات الأسواق، سواء كانت أسواق بضائع أو أسواق أدب وأشعار، وقد سبقه نموذج نبي الله نوح عليه السلام المذكور في القرآن الكريم، والذي قام باستخدام كل وسائل الدعوة تحت أي ظرف، ورغم كل الضغوط.. ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)﴾ (نوح) ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)﴾ (نوح) ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)﴾ (نوح).

وقد قامت أجيال المسلمين بأداء تكليف الله بحمل الرسالة وتبليغها جيلاً بعد جيل، وكما بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، وهو أيضًا صلى الله عليه وسلم بشرنا بأن هذا النموذج القدوة سيظل يحمل الأمانة والرسالة حتى يوم القيامة مهما صادفهم من صعاب ومضايقات، ومهما وضع في طريقهم شياطين الجن والإنس من العقبات "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، والكلمتان المذكورتان في حديث من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم ليستا مترادفتان، بل إن لكل واحدة من الكلمتين معنى نحتاجه في طريق دعوتنا، يلخص مشكلة من أهم المشكلات التي تواجه العمل الجماعي:

الكلمة الأولى (خالفهم) أي لم يسر معهم من البداية مختلفًا مع سبيلهم الذي يسلكونه لتبليغ دعوة ربهم.

أما الكلمة الثانية (مَن خذلهم) فهي كلمة موحية أخرى تعني أن هناك مَن سيسير معهم شوطًا من طريق الدعوة إلى الله، ثم ينصرف عن مواصلة العمل معهم سواء في ظروف ابتلاء شدة أو ظروف فتنة رخاء.

وقد حدث هذا لهذه الجماعة المباركة على طول طريقها وعمرها الممتد طولاً وعرضًا جغرافيًّا وتاريخيًّا تمامًا كما نبَّأ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وقد شرب الأستاذ البنا رحمه الله من هذا النبع الصافي، وأرشد أتباعه وهو المرشد الأول لهذه الجماعة لاتباع نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بذل أقصى الجهد، مع الإخلاص والتضحية مع الترابط الوثيق لكل أفراد الجماعة، حتى يكونوا كالبنيان المرصوص يستعصي على مناوئيه النيل منه.

ولكنَّ الله- عزَّ وجلَّ- لم يُكلفنا بالنتائج؛ لأنه أحيانًا كثيرة لا تأتي النتائج حسب رغباتنا بعد بذل أقصى الجهد فتُصاب النفس البشرية بشيء من اليأس، ولكن تأتي التسرية عن قدوتنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عندما وُوجه بمضايقاتٍ بل واعتداءات وأشدها يوم الطائف، رغم أنه ما ذهب إلى الطائف إلا لدعوتهم إلى الله ورضوانه وبلا مقابل إلا أنه يحب لهم الهداية "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ (غافر: من الآية 41)، ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ﴾ (يونس: من الآية 72)، فقال له ربه- عز وجل-: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)﴾ (الأنعام)، وقال له سبحانه وتعالى أيضًا: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ (الشورى: من الآية 48).

ونحن نشهد أنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة على خير ما كُلِّف به، ونسأل الله- عزَّ وجلَّ- أن يجزيه عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وقد حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يبعث يوم القيامة ولم يستجب له أحد، وها هو نبي الله نوح أطول الأنبياء والمرسلين عمرًا، ومن أولى العزم لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا فما استجاب له على أرجح الأقوال إلا قليل.

وقد فصَّل الله- عزَّ وجلَّ- بين الأخذ بالأسباب والنتائج في قوله ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك: من الآية 15)، وقد حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق هو وأصحابه الكرام- رضوان الله عليهم- ولم تدر معركة حوله، ولكن جاءتهم النتيجة نصرًا من الله بالريح، ولم يكن ذلك في حسبانهم، وقد وضع صلى الله عليه وسلم خطة غاية في الإتقان والأخذ بالأسباب في رحلة الهجرة، ولكن وصل الكفار إلى الغار وجاءه وصاحبه نصر الله من خارج الخطة بخطف أبصار الكفار.

وإخواننا المجاهدون في فلسطين وأمثالهم في كل مكانٍ يتحملون أصعب المشقات ويأتيهم عون الله ونصره من حيث لا يحتسبون بعد تمام أخذهم بالأسباب، والأمثلة كثيرة، ولكن الخلاصة التي نسأل الله أن ينفعنا بها في ديننا ودنيانا في هذا الموضوع هي:

1- إخلاص النية لله، فبها نُؤجِّر ونوفق ونُنصر.

2- إذا حدث ما نتمناه حمدنا الله- عزَّ وجلَّ- على فضله وتوفيقه.

3- إذا لم يحدث ما كنا نتمناه فقد وقع أجرنا على الله، ونسأله أن يُقدِّر لنا الخير؛ حيث كان ثم يرضينا به.

4- الاستمرار في أداء الواجب على كل حال بعد التأكد من سلامة الأخذ بالأسباب، وبذل أقصى الجهد يؤكد أن العمل لله لأنه ما كان لله دام واتصل.

5- لا نزال نذكر موقف أمنا هاجر وهي تأخذ بالأسباب سبع مرات، وفي كل مرة لا تحدث النتيجة التي ترجوها، ولكنها تستمر حتى يتحقق ما أراده الله لها من خيرٍ وفير.

6- لا نزال نُذكِّر وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنا أنه "إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، فها هي نهاية الدنيا بل والفسيلة تعني زرع نخلة لا تُؤتي ثمارها إلا بعد سنين طويلة، وليس هناك أية نتيجة متوقعة إلا استمرار الإيجابية والقيام بالواجب والحصول على الأجر.

أيها المسلمون في كل مكان.. ويا أبناء الدعوة من الإخوة والأخوات، رزقنا الله وإياكم دوام الإخلاص ودوام العمل ودوام الإتقان ودوام الرجاء ودوام القبول، فسيروا على بركة الله.. والله يوفقكم ولن يتركم أعمالكم، وسيجزيكم أجركم بإذنه سبحانه بأحسن ما كنتم تعملون.

والله أكبر ولله الحمد.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[StumbleUpon]

This entry was posted on الخميس، 2 ديسمبر 2010 at 3:35 م and is filed under . You can follow any responses to this entry through the comments feed .

0 ممكن رأيك لو سمحت

إرسال تعليق